الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
لقائل أن يقول: قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} معناه أنه يشفي من ألم الغيظ وهذا هو عين إذهاب الغيظ، فكان قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} تكرار.والجواب: أنه تعالى وعدهم بحصول هذا الفتح فكانوا في زحمة الانتظار، كما قيل الانتظار الموت الأحمر، فشفى صدورهم من زحمة الانتظار، وعلى هذا الوجه يظهر الفرق بين قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} وبين قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} فهذه هي المنافع الخمسة التي ذكرها الله تعالى في هذا القتال، وكلها ترجع إلى تسكين الدواعي الناشئة من القوة الغضبية، وهي التشفي ودرك الثأر وإزالة الغيظ، ولم يذكر تعالى فيها وجدان الأموال والفوز بالمطاعم والمشارب وذلك لأن العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة، فرغبهم في هذه المعاني لكونها لائقة بطباعهم، بقي هاهنا مباحث:البحث الأول: أن هذه الأوصاف مناسبة لفتح مكة، لأن ذلك جرى في تلك الواقعة مشاكل لهذه الأحوال، ولهذا المعنى جاز أن يقال: الآية واردة فيه.البحث الثاني: الآية دالة على المعجزة لأنه تعالى أخبر عن حصول هذه الأحوال، وقد وقعت موافقة لهذه الأخبار فيكون ذلك إخبارًا عن الغيب، والإخبار عن الغيب معجز.البحث الثالث: هذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله تعالى إيمانًا حقيقيًا.لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة من الغضب، ومن الحمية لأجل الدين، ومن الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام، وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين.واعلم أن وصف الله لهم بذلك لا ينفي كونهم موصوفين بالرحمة والرأفة، فإنه تعالى قال في صفتهم {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] وقال أيضًا: {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].ثم قال: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاءُ} قال الفراء والزجاج: هذا مذكور على سبيل الاستئناف ولا يمكن أن يكون جوابًا لقوله: {قاتلوهم} لأن قوله: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاءُ} لا يمكن جعله جزاء لمقاتلتهم مع الكفار.قالوا ونظيره: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} [الشورى: 24] وتم الكلام ههنا، ثم استأنف فقال: {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] ومن الناس من قال يمكن جعل هذه التوبة جزاء لتلك المقاتلة، وبيانه من وجوه: الأول: أنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة، فربما شق ذلك على بعضهم على ما ذهب إليه الأصم، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جاريًا مجرى التوبة عن تلك الكراهية.الثاني: أن حصول النصرة والظفر إنعام عظيم، والعبد إذا شاهد توالي نعم الله لم يبعد أن يصير ذلك داعيًا له إلى التوبة من جميع الذنوب، الثالث: أنه إذا حصل النصر والظفر والفتح وكثرت الأموال والنعم وكانت لذاته تطلب بالطريق الحرام، فإن عند حصول المال والجاه يمكن تحصيلها بطريق حلال، فيصير كثرة المال والجاه داعيًا إلى التوبة من هذه الوجوه.الرابع: قال بعضهم إن النفس شديدة الميل إلى الدنيا ولذاتها، فإذا انفتحت أبواب الدنيا على الإنسان وأراد الله به خيرًا، عرف أن لذاتها حقيرة يسيرة، فحينئذ تصير الدنيا حقيرة في عينه، فيصير ذلك سببًا لانقباض النفس عن الدنيا، وهذا هو أحد الوجوه المذكورة في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: {هَبْ لِى مُلْكًا لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى} [ص: 35].يعني أن بعد حصول هذا الملك لا يبقى للنفس اشتغال بطلب الدنيا، ثم يعرف أن عند حصول هذا الملك الذي هو أعظم الممالك لا حاصل للدنيا ولا فائدة في لذاتها وشهواتها، فحينئذ يعرض القلب عن الدنيا ولا يقيم لها وزنًا، فثبت أن حصول المقاتلة يفضي إلى المنافع الخمسة المذكورة وتلك المنافع حصولها يوجب التوبة، فكانت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة، وإنما قال: {على مَن يَشَاءُ} لأن وجدان الدنيا وانفتاح أبوابها على الإنسان قد يصير سببًا لانقباض القلب عن الدنيا وذلك في حق من أراد به الخير، وقد يصير سببًا لاستغراق الإنسان فيها وتهالكه عليها وانقطاعه بسببها عن سبيل الله، فلما اختلف الأمر على الوجه الذي ذكرناه قال: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء}.ثم قال: {والله عَلِيمٌ} أي بكل ما يعمل ويفعل في ملكه وملكوته {حَكِيمٌ} مصيب في أحكامه وأفعاله. اهـ.
وإن شئت رفعت ونأخذ وإن شئت نصبته.والمراد بقوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} بنو خُزاعة؛ على ما ذكرنا عن مجاهد.فإن قريشًا أعانت بني بكر عليهم، وكانت خزاعة حلفاء النبيّ صلى الله عليه وسلم.فأنشد رجل من بني بكر هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض خزاعة: لئن أعدته لأكسرنّ فَمَك؛ فأعاده فكسر فاه وثار بينهم قتال؛ فقتلوا من الخزاعيّين أقوامًا، فخرج عمرو بن سالم الخزاعيّ في نفر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبره به، فدخل منزل ميمونة وقال؛ «اسكبوا إليّ ماء» فجعل يغتسل وهو يقول: «لانُصِرتُ إن لم أَنْصر بني كعب» ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجهّز والخروج إلى مكة فكان الفتح.قوله تعالى: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاءُ} القراءة بالرفع على الاستئناف؛ لأنه ليس من جنس الأوّل.ولهذا لم يقل ويتُبْ بالجزم؛ لأن القتال غير موجب لهم التوبة من الله جلّ وعزّ.وهو موجب لهم العذاب والخزي، وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم ونظيره: {فَإنْ يَشَإ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} تَم الكلام.ثم قال: {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24].والذين تاب الله عليهم مثل أبي سفيان وعِكرمة بن أبي جهل وسليم بن أبي عمرو؛ فإنهم أسلموا.وقرأ ابن أبي إسحاق {وَيَتُوبَ} بالنصب.وكذا رُوي عن عيسى الثّقفي والأعرج، وعليه فتكون التوبة داخلة في جواب الشرط؛ لأن المعنى: إن تقاتلوهم يعذبهم الله.وكذلك ما عطف عليه.ثم قال: {وَيَتُوبُ الله} أي إن تقاتلوهم.فجمع بين تعذيبهم بأيديكم وشفاء صدوركم وإذهاب غيظ قلوبكم والتوبة عليكم.والرفع أحسن؛ لأن التوبة لا يكون سببها القتال؛ إذْ قد تُوجد بغير قتال لمن شاء الله أن يتوب عليه في كل حال. اهـ.
|